بين نوبات العمل الطويلة والإهانة المؤسسية.. لماذا ينهار الأطباء الشباب في إيران؟
بين نوبات العمل الطويلة والإهانة المؤسسية.. لماذا ينهار الأطباء الشباب في إيران؟
أعادت صحيفة "شرق" الإيرانية تسليط الضوء على ظاهرة مقلقة تهزّ المجتمع الطبي الإيراني، وهي ارتفاع حالات انتحار الأطباء المقيمين، التي غالبًا ما تُطوى في صمت ولا تُعلن للرأي العام، وكشفت الصحيفة في تقرير حديث أن عدداً من تلك الحالات لا تصل إلى الإعلام مطلقًا، لأن أسر الضحايا والمؤسسات الصحية تفضّل التكتم عليها، خشية الفضيحة أو المساءلة، فيما يستمر الضغط النفسي والمهني داخل المستشفيات بلا رادع.
تقرير الصحيفة الإيرانية استند إلى شهادات زملاء الطالبة ياسمن شيراني، التي أنهت حياتها مؤخرًا، لتصبح رمزًا لمأساة جيل من الأطباء الشبان الذين يرزحون تحت وطأة نظام طبي قاسٍ، يُتّهم بأنه يقوم على الاستغلال لا التدريب.
ضغط بلا حدود
وفق شهادات نقلتها الصحيفة، يعمل الأطباء المقيمون في المستشفيات الإيرانية في ظروف توصف بأنها "مستنزفة جسديًا ونفسيًا"، إذ تمتد نوبات العمل إلى 36 ساعة متواصلة دون راحة كافية، ويؤكد أحد الأطباء أن مثل هذه الجداول غير الإنسانية تضعهم في مواجهة خطر الخطأ الطبي والإجهاد العقلي، مضيفًا أن المسؤولية الحقيقية لا تقع على الطبيب المنهك، بل على "بنية مريضة لنظام يستنزف كوادره ثم يلومهم على الانهيار".
ويصف عدد من الأطباء المقيمين شعورهم بأنهم مجرد "أدوات تدريب غير مرئية" تُستخدم لسد النقص في المستشفيات العامة، دون أن يحظوا بالحماية القانونية أو المساندة النفسية.
فوبيا الإقامة الطبية
تحدّثت الصحيفة عن ظاهرة باتت تعرف في الأوساط الأكاديمية باسم "فوبيا الإقامة الطبية"، وهي حالة من القلق والخوف تنتاب طلاب الطب قبل دخولهم مرحلة التدريب السريري الإجباري، ويقول أحد الأطباء الشباب إن هذا الخوف لم يعد من طبيعة المهنة نفسها، بل من النظام الذي يديرها، مشيرًا إلى أن العديد من زملائه يختارون الهجرة إلى الخارج بدلًا من البقاء في بيئة يرونها "مهينة وغير آمنة نفسيًا".
ويؤكد مختصون في الصحة النفسية أن هذه الحالة ليست فريدة في إيران، لكنها أكثر حدة فيها بسبب انعدام الدعم المؤسسي للكوادر الطبية الشابة، وتراجع الرواتب الحقيقية أمام ساعات العمل الطويلة وغلاء المعيشة، ما يجعل الإقامة الطبية بيئة خصبة للاكتئاب والإرهاق النفسي.
أزمة متراكمة داخل النظام الصحي
بحسب مراقبين محليين، تفاقمت أزمة الصحة النفسية بين الأطباء المقيمين مع تدهور أوضاع المستشفيات العامة، وتراجع التمويل، ونقص الكوادر، ويشير تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2024 إلى أن إيران تُسجّل أحد أعلى معدلات هجرة الأطباء الشباب في الشرق الأوسط، وأن نحو 40 في المئة من خريجي كليات الطب يسعون للحصول على فرص عمل أو تدريب خارج البلاد خلال السنوات الثلاث الأولى بعد التخرج.
وفي الوقت نفسه، يعاني النظام الصحي من عجز مزمن في الأطباء المتخصصين، ما يدفع المستشفيات إلى تحميل المقيمين عبئًا أكبر لتغطية النقص، وغالبًا دون تعويض مادي كافٍ أو فترات راحة مناسبة.
صمت رسمي وقلق اجتماعي
ورغم أن وزارة الصحة الإيرانية لم تصدر بيانات رسمية حول معدلات انتحار الأطباء المقيمين، فإن تقارير غير رسمية أشارت خلال العامين الماضيين إلى ارتفاع الحالات في مستشفيات طهران وشيراز وتبريز، ويؤكد ناشطون في القطاع الطبي أن المشكلة ليست في الأرقام بحد ذاتها، بل في الصمت المؤسسي والتقليل من حجم الأزمة، إذ غالبًا ما تُسجّل حالات الانتحار تحت مسميات مبهمة مثل "وفاة عرضية" أو "حادث منزلي".
ويرى خبراء أن ذلك التعتيم يسهم في تطبيع الأزمة بدل مواجهتها، ويمنع إطلاق برامج وقاية فعالة أو توفير دعم نفسي حقيقي للكوادر الطبية العاملة في بيئة عالية الضغط.
معاناة خلف الأبواب المغلقة
تُشير روايات الأطباء المقيمين إلى بيئة عمل توصف بأنها "قائمة على الإهانة الهرمية"، حيث يُمارس الأطباء الكبار سلطتهم بأساليب تنطوي على الإذلال أو الترهيب، ويُطلب من المقيمين الامتثال لأوامر قاسية في مواقف حرجة دون اعتراض، وفي حالات عدة تؤدي هذه الضغوط إلى احتراق مهني كامل، وهو ما يصنّفه الأطباء النفسيون كأحد المقدمات الرئيسية لحالات الانتحار.
ويضيف طبيب شاب وفقا لما أوردته صحيفة "شرق" أن "المقيم في السنة الأولى ينهار تدريجيًا بين ضغط العمل وسوء المعاملة وقلة النوم"، مشيرًا إلى أن كثيرين "لم يعودوا يشعرون بأن حياتهم ملك لهم"، بل هي "رهينة دوام لا ينتهي".
غياب الدعم النفسي والمؤسسي
على الرغم من تحذيرات متكررة من نقابة الأطباء وجمعيات التعليم الطبي، لا تزال برامج الدعم النفسي داخل المستشفيات الإيرانية شبه غائبة، ولا توجد وحدات متخصصة لتقييم الحالة النفسية للأطباء المقيمين أو متابعتهم أثناء فترات العمل الطويلة، في وقت تشير فيه الدراسات إلى أن نسبة الاكتئاب بين طلاب الطب والمقيمين تتجاوز 30 في المئة في إيران، مقارنة بـ20 في المئة عالميًا.
ويرى محللون أن النظام الصحي الإيراني بحاجة إلى إصلاح جذري في فلسفة تدريب الأطباء، بحيث تتحول الإقامة من مرحلة استنزاف إلى تجربة تعلم إنساني ومهني آمن، تحترم كرامة الطبيب وحقوقه، قبل أن يُطلب منه احترام حياة الآخرين.
دعوات للتحقيق والإصلاح
أثار تقرير صحيفة شرق تفاعلًا واسعًا في الأوساط الطبية والأكاديمية، حيث طالب عدد من الأطباء عبر شبكات التواصل الاجتماعي بفتح تحقيق رسمي في ظروف الإقامة الطبية، ووضع حد لما وصفوه بـ"ثقافة الإهانة البنيوية" في المستشفيات التعليمية، كما دعا ناشطون إلى سن تشريعات تُنظّم ساعات العمل القصوى، وتُلزم المستشفيات بتوفير استشارات نفسية دورية للمقيمين، على غرار ما هو معمول به في بعض الدول الأوروبية.
وفي المقابل، اكتفت وزارة الصحة حتى الآن بالإشارة إلى أنها "تتابع الموضوع"، من دون إعلان إجراءات ملموسة، فيما يستمر الجدل حول مدى استعداد النظام الصحي للاعتراف بوجود أزمة حقيقية تهدد مستقبل مهنة الطب في البلاد.
تأتي هذه الأزمة في سياق اجتماعي واقتصادي معقّد، حيث تشهد إيران موجة ضغوط اقتصادية وتضخمًا متصاعدًا، ما يزيد من التوتر العام في مؤسسات الدولة، ومنها القطاع الصحي، كما تعاني الجامعات الطبية من نقص التمويل والكوادر، وتزايد أعداد الطلبة المقبولين مقارنة بالإمكانات المتاحة.
تاريخيًا، لطالما عُرفت مهنة الطب في إيران بمكانتها المرموقة، لكنها اليوم تواجه أزمة ثقة داخلية بين أجيال الأطباء أنفسهم، إذ يشعر الجيل الجديد بأن مهنته تحولت من رسالة إنسانية إلى عبء نفسي واجتماعي لا يُحتمل.
بهذا، يتحول ملف انتحار الأطباء المقيمين في إيران من مجرد حوادث فردية إلى مرآة لأزمة مؤسساتية أعمق، تختبر قدرة النظام الصحي على حماية من يحمون صحة الآخرين.










